بقلم / عبده مباشر
تاحت ظروف عمل المفكر والكاتب الكبير عبده مباشر في بلاط صاحبة الجلالة لأكثر من نصف قرن فرصا للاقتراب من رؤساء مصر الثلاثة ناصر والسادات ومبارك.. وعن الظروف والاسباب يكتب مجموعة من المقالات يكشف فيها الكثير من الاسرار والخفايا التي كانت تجري في الشارع الخلفي بعيدا عن الأضواء.. وعلي هذه الصفحة تنشر "المساء الأسبوعية" مقالات الكاتب الكبير.
في نهاية يوم شتوي شديد البرودة في نهاية يناير عام 1970. تلقيت اتصالاً تليفونياً من الفريق محمد صادق الذي شغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة في سبتمبر من عام 1969 ليحل محل اللواء أحمد إسماعيل الذي عزله الرئيس عبدالناصر كنتيجة لعملية الزعفرانة الإسرائيلية علي شاطئ خليج السويس الغربي. ليطلب مني الذهاب لمقابلة الرئيس عبدالناصر في الثامنة من صباح الغد.. ولما سألته لماذا؟!.. قال: إن الرئيس طلب منه ذلك دون أن يخبره شيئاً عن أسباب هذا اللقاء.
في نهاية يوم شتوي شديد البرودة في نهاية يناير عام 1970. تلقيت اتصالاً تليفونياً من الفريق محمد صادق الذي شغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة في سبتمبر من عام 1969 ليحل محل اللواء أحمد إسماعيل الذي عزله الرئيس عبدالناصر كنتيجة لعملية الزعفرانة الإسرائيلية علي شاطئ خليج السويس الغربي. ليطلب مني الذهاب لمقابلة الرئيس عبدالناصر في الثامنة من صباح الغد.. ولما سألته لماذا؟!.. قال: إن الرئيس طلب منه ذلك دون أن يخبره شيئاً عن أسباب هذا اللقاء.
ولم يكن القلق بعيداً عني.. ولكنني كنت أقول لنفسي: بالقطع لم أقع في أي أخطاء تغضب الرئيس. فيما عدا قيادة مظاهرات فبراير 1968. وقد مرت علي خير. لأن الرئيس بعد أن علم تصرف كرجل دولة. كما أن الحساب علي الأخطاء له وسائل وطرق أخري.. وكنت قد بدأت أعرف أن الاقتراب من أهل الحكم في مصر أمر صعب.. فالعيون ستبدأ في المتابعة. وستخضع الاتصالات التليفرنية للمراقبة. وسيجري فرز كل من يلتقي بهم وفحص ملفاتهم. باختصار سيعيش مكشوفاً دائماً. ومثل هذه الحياة ستفرض عليه أنماطاً من السلوك. هدفها ألا يثير الشكوك. وإذا ما فاز بقدر من الثقة. أو فلنقل إذا ما وقع تحت إدراك أنه موضع ثقة سواء أكانت هناك مساحة من الثقة به أم لا. فإنه سيتصرف بما يكفل له الحفاظ علي هذا القدر من الثقة.
كنت قد بدأت أتعرف علي هذه الحقائق بعدما اقتربت من المشير عبدالحكيم عامر. وأولاني قدراً من الثقة. وفتح أمامي أبواب البوح لأطل علي بعض معاناته. ولأعرف بعضاً من آرائه في الآخرين.. لقد كانت نقطة البداية في هذه الثقة. عندما توجهت مع وفد صحفي وإعلامي من العاملين بقطاع الشئون العسكرية لتغطية مناورة تجريها وحدات من القوات المسلحة في سيناء في بداية ستينيات القرن الماضي.
كنت مازلت في أول الطريق. وأبذل ما أستطيع من الجهد. وقدرت وأنا أري الرئيس عبدالناصر والمشير عامر يسيران في المقدمة وخلفهما الجميع. أنني لو اقتربت منهما. وسرت خلفهما. فربما أسمع خبراً. أو تعليقاً مفيداً أستخدمه فيما سوف أكتبه عن هذه المناورة. فأحدهما رئيس الجمهورية. القائد الأعلي. والثاني هو المشير المسئول مسئولية كاملة عن القوات المسلحة. والنائب الأول لرئيس الجمهورية. وبعد لحظات. رأيت زميلاً لهما من مجلس القيادة يأتي من الخلف بخطوات سريعة محاولاً اللحاق بهما. ولاحظ ذلك المشير. فنظر إليه ساخراً. وباسماً. وسأله: "أنت عايز تعمل راسك براسنا يا ابن الجارية؟!!".. وشاهدني الرجل وهو يقول ذلك. ورأيت نظراته الغاضبة المتسائلة عما أتي بي إلي هذا المكان؟!.. وكيف تركوني أسير من خلفهما. وبكل هذا القرب؟!.. ولكنه ومن قلب الغضب والتساؤلات. كان متأكداً أنني سمعت سؤاله!!
وبخطوات متعثرة. عدت إلي الخلف للابتعاد عن نظره تماماً. وعاصفة من القلق تعصف بي. ومخاوف بلا حصر مما يمكن أن يلحق بي. تسيطر عليَّ. وعشرات التساؤلات تطل من رأسي. وتمتد أذرعها الأخطبوطية لتعتصرني.. وكان مفجعاً ومدهشاً أن أري هذه القيادة اليولوية. تتراجع إلي الخلف بخطوات أسرع مني. لتتواري بعيداً عن نظرات عامر وسخريته اللاذعة المرة.
لقد كان التساؤل عنصرياً جارحاً. وبه من التطاول والازدراء الكثير. حتي ولو كان الأمر مزاحاً!!
وأقول لنفسي. لو كان الأمر مزاحاً ما تراجع الرجل بهذه الصورة..
لقد توقعت وأنا أسمع حديث المشير عامر. أن يطلق العضو اليوليوي النار عليه. أو أن يحاول قتله ولو بأظافره. أو أن يقول له "عيب" علي الأقل. أو أن ينسحب غاضباً. ويعود إلي القاهرة فوراً. ولكن أي من هذه الاختيارات لم يتحول إلي واقع. وانسحب الرجل. وظل علي علاقته بالرئيس ونائبه الأول.
المهم أنني عدت إلي القاهرة متسربلاً بالمخاوف. وتوجهت فوراً إلي منزلي. وأمليت التقرير الصحفي الخاص بالمناورات لجريدة "الأخبار" تليفونياً. وبدأت في إعداد حقيبة انتظاراً للزوار الذين سيصحبونني إلي المعتقل تنفيذاً لأوامر المشير عامر الغاضب من وجودي خلفه في تلك اللحظة. لأسمع ما قاله.
وكلما سمعت وقع أقدام علي السلم. أقول لنفسي: ها هم حضروا. وإذا ما طرق الباب أقول: حانت لحظة الذهاب وراء الشمس!!
ومر اليوم الأول والثاني. ومع اليوم الثالث بدأت أشعر بالاطمئنان..وتراجعت مشاعر الخوف بمرور الوقت. وحمدت الله أنها "مرت علي خير". ولأنه لا يمكن أن "تسلم الجرة في كل مرة". قررت ألا أقترب أبداً من أماكن وجود الرئيس أو المشير.
وبعد عدة شهور وصل وفد عسكري عربي. وكان من الضروري أن أتوجه إلي مقر القيادة العليا لتغطية الزيارة والاجتماعات بين الجانبين. وعندما وصلت انتقلت من مكتب إلي مكتب حتي وصلت إلي مكتب شمس بدران مدير مكتب المشير. وهناك جلست في انتظار وصول الوفد العربي. ووصول المشير. مع كثيرين من العسكريين والصحفيين.
وعندما حضر المشير لمحني جالساً. فناداني وأدخلني المكتب معه. وبدون مقدمات سألني بعد أن دخلنا المكتب. عما إذا كانت معي سيارة. فقلت: نعم.. فطلب مني أن أذهب فوراً إلي مصطفي أمين. وأطلب منه "من بتاع إمبارح"!!
فسألته: هل تريد سيادتك من مصطفي بك أن يرفت "بلية"؟!!.. وللتوضيح واصلت قائلاً: أنا "بلية". وأخشي أن يسألني: ما هو "بتاع إمبارح؟!".. فأعجز عن الإجابة. فقال: قُل له من الدواء الذي تناوله بالأمس.
وأصبحت الصورة أكثر وضوحاً. وأسرعت بالتوجه إلي "الأخبار" والتقيت بمصطفي بك. الذي استغرق في الضحك. وطلب المشير تليفونياً. وتواصلت الضحكات. وانتهت المكالمة التليفونية. وسألني مصطفي بك: ماذا فعلت لتوثيق علاقتك بالمشير؟!.. فأجبت: لم أفعل أكثر مما يفعله أي زميل صحفي.. فابتسم وسلمني 3 علب من الدواء المطلوب. عدت بها للمشير.
وكانت نقطة البداية.
ومثل هذه الاختبارات الصعبة تفرض علي الإنسان سلوكاً محدداً. ومراعاة لما يقول. وأيضاً لما لا يقول.
ولم تتوقف في داخلي التساؤلات حول لقاء الغد مع الرئيس عبدالناصر. واستعصي النوم عليَّ طويلاً.
وقبل الموعد المحدد كنت هناك. واستقبلني الرجل باسماً ومرحباً.. وبعد أن جلست وتبادلنا جملاً قصيرة عني وعن عملي. قال لي: إن محمد "يقصد الأستاذ هيكل" قد أخبرني. ولاحظ أنني لم أستنتج الموضوع الذي أخبره به الأستاذ هيكل. فواصل قائلاً. إنه أخبره عن اتصال المخابرات الأمريكية بي.. وأنه رأي أن يسمع مني كل ما يتعلق بهذا الاتصال.
فقلت له: إن زميلاً من زملاء الدراسة. انضم للعمل بوزارة الخارجية. وسافر للعمل في ألبانيا. ولأنه عاشق للنساء والمال. فقد انغمس في اللذة بقوة. كما أصبح واحداً من الذين يعملون بالتهريب من وإلي دول أوروبا الشرقية. وتمكن من جمع ثروة صغيرة.
وعندما وصلت إلي ألبانيا الشرقية للدراسة. قمت بالاتصال بزملاء الدراسة الذين أوفدتهم الخارجية للعمل في دول أوروبا. خاصة الشرقية. وبالأصدقاء والزملاء الذين سافروا إلي أوروبا للدراسة بعد الحصول علي التوجيهية "شهادة إتمام الدراسة الثانوية" في منتصف الخمسينيات "من القرن الماضي".
وقد طلب هذا الزميل الموجود في تيرانا أن نجتمع في بودابست عاصمة المجر للاحتفال بعيد الأضحي الذي حل في نهاية شتاء عامي 1966. ..1967 وتم الاتفاق علي أن ألتقي به في بلجراد. ويصحبني بعد ذلك في جولة بالسيارة لزيارة المجر والنمسا. ثم نعود للالتقاء مع باقي الزملاء والأصدقاء. وخلال هذه الجولة عشت صوراً من صور التهريب. وعرفت بعضاً من أسرارها.
وسألني عبدالناصر عما إذا كنت قد كتبت عن هذه التجربة. أو أخبرت بها أحداً؟!.. فنفيت هذا. وذاك.. فسألني: ولماذا لم أتحدث مع أحد؟!.. وقلت له: لم أفكر في ذلك إطلاقاً. فقد كنت بصحبة زميل. ولولا ثقته ما عشت هذه التجربة. ولما عرفت شيئاً عن عمليات التهريب التي يشارك فيها معظم العاملين بالسفارات في دول أوروبا الشرقية بما في ذلك الاتحاد السوفييتي. كما كان هو الطريق لأعرف كثيراً من المشاركين في ذلك سواء من المصريين أو النمساويين أو المجريين.
وواصلت قائلاً: إن زميلاً مصرياً يعمل بالمجر قد دعاني للسهر في ناد ليلي بالعاصمة المجرية. وفي نهاية السهرة دفع مبلغاً كبيراً جداً يتجاوز بكثير المبلغ الذي يتقاضاه من الخارجية كمرتب شهري. كما كان سخياً في دفع البقشيش.. وأثناء دفع الحساب والبقشيش. عرفت سبب الترحيب به وبنا عند وصولنا. وتسابق الجميع علي إرضائه.
المهم ظللنا جميعاً علي اتصال طوال فترة الدراسة..
وبعد عودتي لمصر في يونيه 1967. علمت من بعض الأصدقاء أن زميلنا حسن الذي يعمل بتيرانا قد أصيب بمرض جنسي نتيجة إسرافه ومعاشرته لعدد من المحترفات. ويواجه احتمال فقدان ذكورته.. وقد تنقل من مستشفي إلي مسشتفي بحثاً عن العلاج.. وكان خوفه عاتياً من فقدان ذكورته.. وانتهي به الأمر في مستشفي مشهور ببودابست.
وبدأ يشعر بتحسن. وقد أحسنت الممرضة المسئولة عنه التعامل معه. وشيئاً فشيئاً ساعدته علي النجاح في معاشرتها. وعندما حاول مع أخري واجه الفشل. ووقف علي مشارف الاكتئاب. ونصحه الأصدقاء بالزواج من هذه الممرضة التي ساعدته علي النجاح.. وقد كان. وحتي لا يفقد عمله بالخارجية بسبب هذا الزواج. فقد أخفي الأمر عن المسئولين.. وواجه مشكلة كبيرة عندما انتهت فترة عمله في ألبانيا. وتقررت عودته لمصر. فقد كانت الظروف لا تسمح له باصطحاب زوجة لا تعلم القاهرة عنها شيئاً. كما أن الإفصاح عن هذا الزواج قد ينهي عمله بوزارة الخارجية. وإن تصحيح الأمر يتطلب التقدم بطلب للزواج من أجنبية. وقد يوافق المسئولون علي الطلب. وقد يرفضون.. وفي كل الأحوال لن يعود إلي مصر بدونها. فهي العلاج. وهي مصدر الذكورة والسعادة والثقة بالنفس.. باختصار كان يراها الحياة. ولم يكن مطروحاً أبداً أن يضحي بهذه الحياة.
وقرر الإقدام علي محاولة تهريبها حتي وإن كانت لا تحمل وثائق سفر. كما أن السلطات في كل دول أوروبا الشرقية كانت تمنع خروج المواطنين بصفة عامة إلا في حالات استثنائية. أي أن خروجها من المجر لن يتم إلا بطريقة غير مشروعة!!.. وبعد أن شحن متعلقاته. توجه إلي السيارة مع عدد كبير من الحقائب إلي بودابست. ومن هناك اصطحب زوجته في رحلة هروب طويلة. من المجر إلي يوغوسلافيا واليونان وتركيا وسوريا ولبنان..
وكانت الخطة بسيطة.. تختفي زوجته تحت الحقائب قبل اجتياز منطقة الحدود. بعدها تجلس بجواره للاستمتاع بالرحلة والصحبة..
وبهذه الطريقة تمكن من الوصول إلي بيروت. ومن هناك بدأ خطوته الأكثر خطورة وجسارة.. لقد كان علي يقين أنه لن يتمكن من دخول مصر وهي بصحبته إلا إذا كان معها جواز سفر صالح. وقد حاول شراء مثل هذا الجواز.. وكان علي استعداد لدفع الكثير من المال. ولكنه فشل.
وأخيراً لجأ إلي الحل الأخير الذي فكر فيه كثيراً. وطرق باب السفارة الأمريكية. وأخيراً وبعد أن تأكدوا من جديته وإصراره. سمحوا له بأن يقص عليهم الأسباب التي دفعته إلي هذه الخطوة؟!.. وانتهي الأمر بموافقته علي العمل لحسابهم مقابل تزويده بجواز سفر لبناني لزوجته!!
ووصل إلي القاهرة بعد انتهاء فترة تدريبه. ولم يكد يستقر. حتي طلب مني مساعدته في لقاء مدير المخابرات العامة. وقلت له: ليست لي علاقة وثيقة به.. وطلبت منه أن يطرق بابهم مثلما طرق باب السفارة الأمريكية. فقال: إن الأمر في مصر مختلف. وأفضل أن أبدأ وأنا في حماية المدير حتي لا أتعرض لما يسوء إذا ما بدأت مع صغار الموظفين..
واقترحت عليه أن أخبر الأستاذ هيكل وأطلب منه النصيحة. فاستحسن الفكرة.. ورويت للأستاذ هيكل القصة. فقال سألتقي بالأستاذ حسن أولاً وأسمع منه.. وفعلاً تم اللقاء. بعدها اتصل الأستاذ هيكل بأمين هويدي. وذهب حسن للقاء مدير المخابرات العامة. وبدأ مشواره كجاسوس مزدوج.
وفي ليلة من ليالي شهر ديسمبر 1969. كان علي الذهاب إلي مكتب رئيس الأركان. فقد كتبت موضوعاً صحفياً. وأرسلته للمجموعة 26 التابعة للمخابرات الحربية. وبعد أن قرأه المسئولون بها. أرسلوه لمدير المخابرات الحربية. الذي رأي ضرورة عرضه علي رئيس الأركان.
وكنت قد قضيت اليوم ما بين إعداد هذا الموضوع ومتابعته. وكان المسئولون بالأهرام يضغطون من أجل بذل مزيد من الجهود للحصول علي الموافقة علي نشره. ورأيت الاتصال بمكتب رئيس الأركان. فقالوا إنه مشغول جداً. ولم يجد وقتاً لقراءة هذا التقرير. فقررت أن أتوجه إلي هناك علني أستطيع الخروج بنتيجة إيجابية.
واتجهت إلي مكتب رئيس الأركان وأنا أتبادل التحية مع جميع من ألتقي بهم من قوات الأمن والحراسة.
وجلسنا لفترة في المكتب إلي أن سمح وقت رئيس الأركان باستقبالي.. ومد يده بسرعة إلي التقرير وقرأه. ثم وقع بالتصديق علي النشر. ومن مكتبه اتصلت تليفونياً بالأهرام. وأبلغتهم بالموافقة. وأنني في الطريق إليهم.
وأعادني حسن إلي الأهرام. فطلبت منه أن ينتظر ليصحبني إلي المنزل. ففعل.. وفي الطريق أخبرته أنه سيذهب إلي بيروت وعليه أن يطلب من المسئول بالسفارة الأمريكية استبدال جواز السفر بجواز آخر بلا أخطاء. وأن يحكي لهم أن السفارة اللبنانية بالقاهرة قد شكت في أن الجواز الذي معه مزيف.. فقال: إن أحداً في السفارة لم يقل إنه مزيف. فأخبرته أنهم أرسلوا صورة الجواز للسلطات اللبنانية في بيروت ليعرفوا الحقيقة. قبل أن يواجهوك بمثل هذا الاتهام. وهم يعلمون وظيفتك وطبيعة مسئولياتك.
وسألني عبدالناصر: ألم يتوصل هو إلي هذا الاستنتاج. فقلت له: لا أستطيع تأكيد ذلك. ولكنه عندما قص عليَّ الأمر قلت له ما استخلصته مما رواه لي..
ثم سألني: هل كان يحيطك علماً بما يقوم به؟!.. فقلت له: في بداية الأمر. أوضح لي أنه يعمل الآن كجاسوس مزدوج. وأنه تلقي في مصر تدريباً جيداً. فطلبت منه ألا يخبرني بأي شيء. وأن يتوقف أو يخفف من زياراته لي.
وواصلت قائلاً: وبعد مرور عدة أسابيع حضر إلي منزلي وسألني: ألا تريد أن تلعب معي؟!.. فأجبته: لا أفهم.. فقال: العم سام يخطب ودك. فقد حكيت لهم في بيروت. كيف دخلنا وزارة الحربية. وكيف شققت طريقك داخل الوزارة. ثم استقبال رئيس الأركان لك.. وقد أرسلوا معي شيكاً علي بياض لأسلمه لك في حالة موافقتك. علي أن تلعب معنا. كما أن معي لك بطاقات سفر مفتوحة إلي بيروت أو لأي بلد تشاء لكي تلتقي بهم. فرفضت الأمر فوراً.. وأمرته بألا أراه منذ تلك اللحظة بأي صورة من الصور.
والتقيت بالأستاذ هيكل وأخبرته بما جري. فشكرني وقال إنني فعلت الصواب.
وبعد ذلك ذهب حسن للأستاذ هيكل وأخبره بالقصة وبالرفض. وقال له إنهم في بيروت يتلهفون للاتصال به. وبإقناعه بكل الوسائل بالموافقة علي العمل معهم. ويرون أن ذلك سيكون نجاحاً كبيراً. فطلب منه الأستاذ هيكل الابتعاد عني.
وقلت للرئيس قبل أن أتوقف عن الكلام: هذه هي القصة.. فتحدث عبدالناصر قائلاً: لقد أبلغني هيكل بالقصة. فرأيت أن أسمعها منك. وفي نفس الوقت طلبت تقريراً من أمين عن حسن. ويبدو أنه يبلي معهم بلاءً حسناً.
وسالني عن مرتبي. فأخبرته. فعلق قائلاً: تتقاضي مثل هذا المرتب. وترفض شيكاً علي بياض؟!!.. وواصل قائلاً: كم صحفياً يمكنه أن يتصرف مثلك؟!!.. ولم أجب لأنني أعلم أنه يعلم حقائق كثيرة عما يجري في الوسط الصحفي. وأن الصحافة والصحفيين هي اهتمامه الثاني بعد القوات المسلحة. وأياً كانت إجابتي فهي لن تضيف له شيئاً.
ويقول الرئيس: إن أمين سألني: ولماذا لا نقنع الأستاذ عبده بالعمل كجاسوس مزدوج؟!.. وقتها سنعمل علي تدريبه جيداً. وسيكون تحت عيوننا باستمرار. وهو يري أن ذلك سيكون مفيداً لمصر.
وكانت إجابتي: إن مثل هذه المهمة تتطلب ذكاء وسرعة بديهة. وقدرة هائلة علي الأداء وإخفاء المشاعر. والسيطرة عليها. ومكر ودهاء.. بالإضافة إلي سعة الحيلة. وإنني لا أتمتع بمثل هذه الصفات.
وابتسم عبدالناصر وهو يقول: لقد توقعت أن أسمع ذلك منك. وتوقعت أن رفضك سيسبق تفكيرك. وواصل قائلاً: كما أن أمين يري أن الأمريكيين سيحاولون الاتصال بك مرة أخري. واقترح وضعك تحت المراقبة. حماية لك.. وقد أمرته بالابتعاد عنك تماماً.
وفي نهاية اللقاء قال وهو يقف ليودعني بحرارة ومودة: "إنني أشكرك علي هذا الموقف. وأقدر لك ما فعلت"./ المساء
0 تعليقات