اخر الاخبار متحرك

هدى عبد الناصر: "بصراحة " رصدت لقاءات "عبد الناصر" بالشعب العربي بأمانة ومهنية

هيكل
ناصر
د. هدى عبد الناصر :
"بصراحة" رصدت لقاءات "عبد الناصر"
بجماهير الشعب العربي  
كمرجع أصيل
----
كتب : عبد الرحمن مدني
كتبت د. هدى عبد الناصر كريمة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، عن ما أسهم به   الكاتب الكبير نحو أمانة وشرف المهنة طوال حياة الزعيم"ناصر" قبل وبعد رحيله فقالت :
  قرأت كل كتب الأستاذ هيكل‏,‏ واستعنت بمقالاته بصراحة كمرجع أصيل من الدرجة الأولي في سلسة كتبي‏..‏ جمال عبد الناصر‏..‏ الأوراق الخاصة‏.‏
 سبق أن كتبت عن قيمة هذه المقالات في العمل البحثي العلمي والصحفي, وهنا أريد أن أؤكد أهمية الاستعانة بمقالات الأستاذ هيكل وكتبه في دراسة تاريخ مصر والأمة العربية المعاصر, خاصة مع غياب تقليد الكشف عن الوثائق الرسمية في مصر والعالم العربي.
وأتذكر- بعد خمس سنوات ونصف السنة من التفرغ في البحث في هذا الموضوع- أنه ما من سؤال دونته, إلا ووجدت إجابته في مقالات الأستاذ هيكل; فلقد كانت فترة الثماني عشرة سنة وأكثر من الشهر, التي كان فيها جمال عبد الناصر المسئول الأول عن مصر, مليئة بالأحداث والتقلبات السياسية والعسكرية في العالم العربي; حيث انطلقت دعوة القومية العربية والوحدة العربية, وتحققت التنمية الاقتصادية في بلدنا بمعدل سريع; جعلها نموذجا بين الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.. تلك الدول التي نجح ناصر وتيتو ونهرو في جعلها جبهة تبعد عن الاستقطاب الدولي بين الولايات المتحدة والغرب من ناحية, والاتحاد السوفيتي والشرق من ناحية أخري.
والحديث عن سلسلة مقالات بصراحة التي بدأت في الأهرام في عام1957 حتي1974, وبلغت بإضافة مقالات آخر ساعة منذ قيام ثورة23 يوليو1952, والمقالات التي كتبها الأستاذ هيكل بعد خروجه من الأهرام في الأخبار والأنوار اللبنانية-300,706,2 كلمة أي532,13 صفحة- ولذلك فإنه من الصعب جدا الاختيار للعرض علي القارئ, ولكن ما يسعدني في هذه اللحظة هو قيام الأستاذ/ محمد عبد الهادي بإفراد موقع للأستاذ هيكل من مواقع الأهرام, وقد وضعت عليه جميع هذه المقالات.
وإزاء حيرتي, تذكرت الدهشة التي قرأت بها مقالات الأستاذ هيكل عن اليمن, وخاصة تلك التي وصفت زيارة عبد الناصر لشعبه العظيم بعد ثورة26 سبتمبر.1962 لقد ساندتها مصر معنويا وعسكريا منذ البداية في مواجهة التدخلات الخارجية, التي ساندت حكم الإمام السابق البدر في شخص أخيه الحسن, وقاومت الوجود العسكري المصري هناك; وخاصة من جانب الولايات المتحدة التي كان لها قاعدة حربية في المملكة العربية السعودية, وبريطانيا التي كانت تحتل الجنوب العربي والخليج العربي, ولها قاعدة عسكرية هامة في عدن.
ومن هنا فكرت.. وماذا عن استقبالات الشعب العربي في مختلف البلاد التي زارها عبد الناصر؟ بالطبع كان الوصف الدقيق والأمين والمرهف لها من جانب الأستاذ هيكل في مقالاته بصراحة, لا يدانيه أي شيء..
أولا: في دمشق بعد الوحدة, مئات الألوف رافعين المشاعل حتي الفجر ينادون.. طل علينا ياجمال:
ففي مقال بعنوان.. جمال في دمشق, بتاريخ25 فبراير1958, كتب الأستاذ هيكل.. رأيت دمشق كما لم أرها في عمري, والتعبير مألوف استعمل عشرات المرات قبل أن أستعمله. وأعرف ذلك, ولكن ماذا أصنع والحوادث التي تجري أمامنا الآن أكبر من الألفاظ, وليس في طاقتنا أن نصنع في كل مرة من الحوادث ألفاظا جديدة.
لقد كان وصول جمال عبد الناصر اليوم الي دمشق مفاجأة تمت في سرية كاملة محكمة.
في الصباح الباكر سارت سيارات متتابعة في الطريق الي مطار ألماظة, ولم يفطن الذين شاهدوها الي أن حدثا كبيرا يجري أمامهم. كان في هذه السيارات جمال عبد الناصر في طريقه الي دمشق, ومعه المشير عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وأنور السادات وعبد القادر حاتم.
وفي الساعة السابعة قامت الطائرة من مطار ألماظة متجهة الي دمشق, وفي الساعة الثامنة تماما بدأت الطائرة تعلو في الجو ثم بدأت تمرق وسط السحب في محاذاة شاطئ إسرائيل. وفي الثامنة والثلث كان جبل الشيخ المعمم بالثلوج يبدو عند الأفق, وكانت أول نفحة من سوريا. وأطل جمال عبد الناصر من نافذة الطائرة, يلقي أول نظرة علي الأرض التي انتخبته رئيسا لجمهوريتها دون أن تراه ودون أن يراها.
وفي الساعة التاسعة إلا ربعا كانت الطائرة تهبط في مطار المزة. وبدت الطائرة للذين كانوا في المطار كأنها طائرة عادية كغيرها من عشرات الطائرات التي تهبط كل يوم في مطار المزة. ثم توقفت الطائرة تماما أمام مبني المطار, وكان هناك جماعة من قواد الجيش السوري يتقدمهم اللواء عفيف البزري والزعيم أمين النافوري والقائم مقام عبد المحسن أبو النور الملحق العسكري المصري في دمشق. كانوا واقفين ينتظرون الطائرة وفي تصورهم أن القائد العام المشير عبد الحكيم عامر موجود بين ركابها.
وفتح باب الطائرة.. ولدهشتهم جميعا ظهر علي بابها آخر شخص كانوا يتوقعون ظهوره في هذه الساعة من الصباح, وكان اللواء البزري أول من أفاق من الدهشة فقال: يا خبر! ثم بدأ الباقون جميعا يتطلعون الي الرئيس جمال عبد الناصر في ذهول, وهم يرونه يهبط سلم الطائرة ويمد يده إليهم مصافحا. ولم تكن هناك سيارات في الانتظار ولم تكن هناك ترتيبات للاستقبال.
وركب الرئيس سيارة كانت في المطار, بينما اندفعت سيارة اللواء البزري تفسح الطريق أمامها في الطريق الذي يؤدي من مطار المزة الي عاصمة الأمويين الخالدة. وكان اندفاع سيارة اللواء البزري في الطريق هو الشيء الوحيد الذي لفت أنظار بعض السيارات المارة, فتطلع ركابها الي الركب.. ركب السيارات التي تجري علي الجانب الآخر من الطريق, ثم اكتشف ركاب هذه السيارات الحقيقة مرة واحدة; فاستداروا بسياراتهم وعادوا يحاولون اللحاق بموكب جمال عبد الناصر وهم ينادون باسمه.
وبعد قليل كانت شوارع دمشق كلها تردد نفس الاسم, وفي تلك اللحظة كانت سيارة الرئيس جمال عبد الناصر قد وصلت الي دار الرئيس شكري القوتلي. وكان الرئيس شكري القوتلي ما زال بالدور العلوي بمنزله, ولم يكن يعرف بأمر المفاجأة التي وصلت الي دمشق في هذه اللحظات. وأخطر الرئيس شكري القوتلي بأن جمال عبد الناصر ينتظره في صالون بيته. وارتدي الرئيس شكري القوتلي ملابسه وهرع للقاء ضيفه; المفاجأة التي لم تكن متوقعة في هذا الصباح في دمشق, وتعانق الرجلان...
وفي تلك اللحظات كانت جموع الشعب التي سمعت النبأ بدأت تزحف علي قصر الرئيس شكري القوتلي كأنها سيل ينحدر من قمم الجبال, وبدأت أصوات الجماهير تعلو حتي وصلت الي أسماع الرئيسين حيث كانا واقفين في الصالون. وكانت الجماهير تهتف: ناصر ناصر ناصر ناصرنا... وخرج الرئيسان الي شرفة البيت, وتحدث السيد شكري القوتلي وبعده الرئيس عبد الناصر, ثم دخل الرئيسان الي بيت الرئيس شكري القوتلي. ولما جاء الموعد الذي يجب أن ينتقل فيه الرئيس جمال عبد الناصر الي قصر الضيافة, خرج الي شوارع دمشق في سيارة مكشوفة.
إن الحماس الذي شهدته شوارع دمشق لا يمكن أن يوصف, وأي محاولة لوصفه لن تستطيع أن تشير الي الحقيقة.
إن الطريق بين قصر القوتلي وقصر الضيافة لا يزيد طوله علي100 متر, ولكن السيارة المكشوفة قطعته في أكثر من ساعة! ثم وصل الرئيس جمال عبد الناصر وسط بحر متدفق من الجماهير, وبقي واقفا في الشرفة أكثر من ربع ساعة يرد تحية شعب دمشق الذي احتشد في الميدان الكبير, وملأت الجماهير جميع الشوارع المؤدية الي قصر الضيافة...
وقال السيد شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر: إن هذه الأمة في حماية شبابك وإيمانك وشجاعتك.
وقضي الرئيس كل ساعات ما بعد الظهر يخرج الي شرفة القصر ويدخل منها, كلما كانت الجماهير تلح عليه في أن يطل عليها, وكانت أصواتها كالرعد وهي تناديه: طل علينا ياجمال. فكان يخرج إليهم ويرد تحيتهم رافعا كلتا يديه.
وكان الرئيس جمال عبد الناصر يطلب من الجماهير أن تنصرف لأن البرد يشتد مع وصول الليل, ولكن تجمعات الجماهير كانت تزداد.
وفي مقال ثان, بعنوان.. تقرير من دمشق, بتاريخ10 مارس1958, كتب الأستاذ هيكل.. لماذا سافر جمال عبد الناصر الي دمشق غداة يوم الاستفتاء؟, وقال: لو أن الذي حدث في دمشق, روي لي من علي البعد, دون أن تتاح لي فرصة رؤيته عن قرب, ما كنت صدقته! ولو أني حاولت أن أصف ما رأته عيناي في عاصمة الأمويين, لكانت محاولتي تجنيا صارخا علي الحقيقة...
وتساءل الأستاذ هيكل.. ما هو المعني الحقيقي لاستقبال جمال عبد الناصر في دمشق, هذا الاستقبال الذي نقلت الصحف ووكالات الأنباء والإذاعات من تفاصيله ما يكفي لأن يجعله ببساطة شيئا لم يحدث من قبل؟ معناه أن هذه الأمة كانت تبحث عن بطل فلما عثرت عليه, والتقت به وجها لوجه, تفجرت المشاعر المكبوتة في أعماقها منذ قرون طويلة من الزمان.. ذلك تقديري.
إن استقبال جمال عبد الناصر في دمشق, لم يكن استقبال سياسي أو قائد أو زعيم مهما كانت مساهمته في خدمة أمته, إنما كان استقبال جمال عبد الناصر أكثر من هذا.
لم يكن مجرد سياسي أو قائد أو زعيم, ذلك الذي كانت مئات الألوف يقفون في ساحة الجلاء منذ الصباح الباكر الي ما بعد منتصف الليل, ينتظرون أن يخرج إليهم لخمس دقائق أو عشر طوال فترة انتظارهم الطويل.
ولم يكن مجرد سياسي أو قائد أو زعيم, ذلك الذي كانوا يقبلون للسلام عليه, ثم يتطلعون الي وجهه, ثم تتملكهم نوبة من البكاء! رأيت شيوخ القبائل يبكون, رأيت الرجال يصافحونه بيد, وباليد الأخري يغطون وجوههم ليحجبوا عنه الدموع, رأيت نساء وفتيات ما أن يقفن أمامه حتي يضيع منهن ما كن قد أعددنه ليقلنه له, ثم لا يجدن ما يسعفهن إلا البكاء وأيديهن ما زالت معلقة في يده!
التفسير الوحيد.. هو هذا الذي قلته: كانت الأمة العربية تبحث عن بطل فلما عثرت عليه كان ما كان.
لقد كان لهذه الأمة عزها ومجدها... وكان حلمها أن يجيء يوم, وأن يجيء بطل... ولقد أحسست في دمشق أن كل سجل جمال عبد الناصر من الأعمال, لم يكن في مشاعر الأمة العربية مجرد أعمال سياسية أو انتصارات وطنية, وإنما كانت هذه كلها في مشاعر الأمة العربية إشارات.. إشارات معناها أن اليوم قد جاء, وأن البطل قد ظهر; ذلك هو تفسير استقبال جمال عبد الناصر في دمشق, ذلك هو تفسير الأساطير التي تروي اليوم عن جمال عبد الناصر في دمشق.
لماذا سافر جمال عبد الناصر بهذه السرعة الي دمشق.. لماذا طار إليها غداة يوم إعلان نتيجة الاستفتاء؟
إن قائد المعركة رأي أن يذهب الي الخط الأول.. إن سوريا هي خط القتال الأول...
إن القاهرة هنا, لا يمكن أن تشعر بالذي تشعر به هناك دمشق; لسبب واحد تكفي لشرحه نظرة سريعة الي خريطة الشرق الأوسط وسوريا في وسطها.. الي شمال سوريا تركيا وعدنان مندريس, الي جنوبها اسرائيل ودافيد بن جوريون, الي شرقها العراق المناضل الذي يتحكم فيه نوري السعيد, الي غربها لبنان العربي الذي يريد بعض حكامه أن يحولوه الي وكر للمؤامرات وقاعدة للأساطيل الغربية. هذه غير حدود مشتركة, مع صاحب الجلالة...
ثم حدود مشتركة أخري مع صاحب الجلالة الآخر; كلها حدود ملتهبة يتربص فيها الخطر علي سوريا.
وهكذا كان يجب أن يطير القائد بسرعة الي دمشق, ليعزز خطوط الدفاع من حول سوريا, ولقد كان هذا عملا واجبا... ولو قد حاول أحد أن يسأل: ما الذي جري؟ لماذا كل هذا الغليان المفاجئ في الشرق الأوسط؟! لكانت الإجابة: لأن رجلا واحدا طار من مصر الي سوريا, ثم ربض في دمشق في وضع الاستعداد.
إن هذه أول زيارة لجمال عبد الناصر الي سوريا, ولقد انتخبه شعب سوريا رئيسا لجمهوريته دون أن يراه.
ثانيا: مئات الألوف وسط شارع واحد في الجزائر تجمعوا ليستقبلوا عبد الناصر:
وفي لقاء آخر لعبد الناصر مع الشعب العربي كانت زيارته للجزائر بعد استقلالها في يوليو.1962 ويمكن بالطبع تصور مدي إقبال الشعب الجزائري لتحية من ساند المقاومة منذ1954 معنويا وعسكريا, ولذلك فإن حديث الأستاذ هيكل عن هذه الزيارة يجدد أواصر المحبة بيننا وبين الجزائريين, فقد كتب تحت عنوان عائد من الجزائر, بتاريخ10 مايو..1963 ما يلي.. موضوعي اليوم.. عن يومين في الجزائر! وكثير, كثير, حتي خلال يومين اثنين يستحق أن يكون موضوعا للحديث عن الجزائر; علي المستوي الفردي وعلي المستوي العام, في المجال الإنساني وفي المجال السياسي.
وعلي المستوي الفردي والإنساني أشعر أن موقفين اثنين تركا علي وجداني أثرا لا أستطيع أن أنساه.
الموقف الأول عشته وسط زحام ليس في مقدوري وصفه.. مئات ألوف وسط شارع واحد في الجزائر تجمعوا ليستقبلوا عبد الناصر ويمدوا له أيديهم سلاما, وينادون بإسمه محبة. بحر من البشر, أمواج تتدافع علي أمواج, وهدير عاصفة كأن قوي الطبيعة الغلابة كلها تجمعت فيها.
ووسط البحر الطاغي وقف عبد الناصر ومعه بن بيللا وهواري بومدين, ومن حولهم نطاق من جنود جيش التحرير في وقفة أخيرة مستبسلة. وقال هواري بومدين: في هذا الشارع كان خمسة آلاف من جنود جيش التحرير يتولون مسئولية النظام, لكن محبة الناس أقوي من جيش التحرير ومن النظام.
ووسط العاصفة الرائعة برزت من الخضم الهائل شابة ترتدي السواد, ومعها طفل صغير راحت تخلصه من الزحام وتحاول أن تجتاز به النطاق الأخير من حول عبد الناصر وبن بيللا وبومدين. وقبل أن يشعر أحد, كانت الشابة قد اقتحمت طريقها الي النطاق الضيق الذي وقف الثلاثة فيه, وتقدمت إليهم, ورفعت رأسها بكبرياء حزين وقالت لعبد الناصر: قبل هذا الطفل ياسيدي. واستطردت تقول: لقد مات أبوه من أجلك, قتلوه تحت رايتك, طارده المستعمرون وهو يحمل علما للجمهورية العربية, وظلوا وراءه حتي أفرغوا فيه رصاصهم.
واستطردت الشابة لابسة السواد: كان أخي يا سيدي.. وهذا ابنه, وأنا أريدك أن تقبله, وأعلم أن ذلك سوف يرضي الشهيد. وخانها الكبرياء وارتجف صوتها بالدموع وسط العاصفة الرائعة من حولها وهي تكرر: قبله يا سيدي.. مات أبوه من أجلك.. وقتلوه تحت رايتك.
ورفع جمال عبد الناصر ابن الشهيد يقبله. وأحاط الطفل صديق أبيه بذراعيه الصغيرتين.. وكانت الشابة لابسة السواد الحزين ما زالت تبكي.. ولأول مرة في حياتي, رأيت في عيني عبد الناصر الدموع...
ومرة ثانية خلال يومين اثنين في الجزائر كان ما أشعر به أكثر من مجرد الانبهار وأبعد وصولا الي قرار النفس- حين وقف أحمد بن بيللا في الساحة الواسعة التي عقد فيها المؤتمر الشعبي الكبير, الذي تكلم هو فيه, وتكلم بعده جمال عبد الناصر.
كانت ساعة غروب, والسماء مزدحمة بسحب مكهربة يتصادم فيها الرعد وتلمع البروق ويتدفق المطر. وكانت الأبنية العالية الصاعدة علي سفح الجبل الأخضر المطل علي الساحة الواسعة تشع النور من نوافذها وشرفاتها, وآلاف البشر يطلون منها وآلاف الأعلام أمام الرياح وتحت الأضواء مدلاة علي جدرانها.
وحين بدأ أحمد بن بيللا حديثه, ترك عشرات الألوف من الحاضرين مقاعدهم تحت المظلات, وتقدموا الي أرض الساحة المكشوفة تحت سيل المطر لا يكاد أحدهم يلقي بالا إليه.
ثم راح بن بيللا يتكلم عن عبد الناصر.. عن الأخ الأكبر, وقال بن بيللا ما لا يقوله إلا رجل كبير.. قال: إن الجزائر كانت تناضل وتنتظر شيئين: يوم الاستقلال.. ويوم يزورها عبد الناصر. وقال إن الجزائر لم تشهد يوما كيوم وصول عبد الناصر.. حتي ولا يوم الاستقلال.
وقال: أريد أن يسمعها الجميع لا أستثني منهم أحدا, في وقت الأزمة وقبل أن تكون هناك ثورة, لم نجد شرقا ولا غربا الي جانبنا.. لم نجد إلا رجلا واحدا هو جمال عبد الناصر.
وقال: يوم كان في الجزائر جزائريون لا يرون احتمالا للنصر, ويوم كانت الأحزاب كعادتها- تتصارع من أجل الكسب السياسي, وجدت في القاهرة رجلا لم يتردد لحظة في أن يضع كل الإمكانيات المادية والمعنوية لمصر تحت تصرف ثورة الجزائر ومن أجل نصرها.
وقال: لقد تعرضت مصر للحرب, وبين أسباب المعتدين عليها موقفها من الجزائر, وأن الدم الذي سال في بورسعيد ربط مصير الجزائر بمصر والي الأبد.
وقال: إن من يريد أن يستفيد عليه أن يرجع الي التاريخ والتاريخ القريب وليس البعيد.. ارجعوا الي التاريخ وهو ينطق بحروف من نور, ونحن نقول لهم بصراحة إننا في هذه البلاد نعرف هذا التاريخ ونعلنها صراحة; أنه لا يوجد إنسان خلصنا ونصرنا إلا جمال عبد الناصر.
ونحن نقول لمن يريدون استغلال هذه البلاد في مناوراتهم التي ترمي الي تفكيك العرب والوحدة العربية.. نقول لمن يدبرون هذه المناورات: هيهات.. هذا البلد بلد عربي, وهذا البلد يعرف قدر مصر, وقدر جمال عبد الناصر في حرب التحرير.
ثالثا: احتفال الجلاء عن بنزرت:
وتحت عنوان30 ساعة في بنزرت, كتب الأستاذ هيكل في20 ديسمبر1963, عن هذه المدينة التونسية الجميلة التي كانت قاعدة عسكرية للاستعمار الفرنسي, ما يلي: عشت هذا الأسبوع ثلاثين ساعة في بنزرت, وكل ما في ينبض بقوة وعمق مع كل ما فيها, وكأن هذه المدينة الجميلة علي الروابي التونسية الخضراء, النازلة الي خلجان البحر الأبيض المتوسط, قد اكتسبت من تاريخها الحافل قدرة غير عادية علي التأثير!...
وفي العصر الحديث ضربت بنزرت بالقنابل مرتين.. ضربها الفرنسيون بالقنابل من البحر في القرن الثامن عشر تخويفا لها وإرهابا, بينما فرنسا تتحفز وتتحين الفرصة للانقضاض عليها بالاحتلال! ثم ضربها الفرنسيون أيضا للمرة الثانية وبالقنابل, ولكن من البر هذه المرة في القرن العشرين- سنة1961- وكان ضربها للمرة الثانية غيظا وحقدا, بينما فرنسا تتراجع والعلم الفرنسي يطوي من سارية بعد سارية فوق شمال إفريقيا!
وكان الحبيب بورقيبة من جانبه مصرا علي أن يحضر عبد الناصر احتفال الجلاء عن بنزرت, وأذكر في لقاء بينه وبيني في بلجراد في أعقاب الأزمة, في شهر سبتمبر1961, أنه كان يتطلع الي ذلك اليوم ويدبر له, ولو في خياله وقتها, ما زلت أذكره يومها وهو يقول لي خلال مناقشة عنيفة, ونحن نتناول الإفطار معا ذات صباح في البيت الذي كان يقيم به في بلجراد:
سوف يتحقق الجلاء عن بنزرت, وسوف أدعو جمال عبد الناصر لحضوره, سأطلب منه أن يجيء بالبحر- بالباخرة الحرية- ويدخل الميناء.
وتحقق ما أراده بورقيبة مع بعض الخلاف في التفاصيل, بدل الباخرة, وصل عبد الناصر بالطائرة, فقد كان علي عجل بسبب موعد سابق بينه وبين شوين لاي, لكنه من جانبه هو الآخر كان متحمسا لقبول الدعوة وحضور احتفال بنزرت...
وفي يوم بنـزرت, علي مائدة غداء في نادي الضباط, المواجه لعمارة الأدميرالية الفرنسية القديمة, والمطل علي الخليج الفسيح الذي تبدو منشآت القاعدة الفرنسية البحرية السابقة عند طرفه. تلفت الرئيس بورقيبة حتي عثر علي جالسا الي مائدة قريبة, وقال الرئيس بورقيبة للرئيس عبد الناصر الجالس بجواره علي مائدته: ها هو هناك, ثم التفت الي الرئيس عبد الناصر وقال له: بيني وبينه حساب طويل!
وقال الرئيس عبد الناصر ضاحكا: لا شأن لي بحسابكما, أنتما صديقان من قديم, وبينكما مناقشات متصلة لم أتدخل فيها ولا أريد أن أتدخل!...
واستدار الرئيس بورقيبة الي الرئيس بن بيللا الجالس بجواره علي الناحية الأخري يقول له: كان دائما يهاجمني.. ويتجني علي!
رابعا: هذه هي الحقيقة الآن في اليمن:
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ هيكل مقالا في1 مايو1964; يصف استقبال الشعب اليمني الرائع لجمال عبد الناصر في صنعاء وتعز كالتالي: لقد كان يجب أن أبدأ بالصور الباقية, والتي سوف تبقي الي زمان طويل في ذاكرتي, من مشاهد هذه الرحلة..
لقاءات جمال عبد الناصر- علي سبيل المثال- مع جماهير الشعب اليمني, من سكان المدن وأهل القبائل في شمال اليمن وفي الجنوب, حين كان عبد الناصر يبدو وسط زحام البشر كأنه شراع وسط البحر الواسع الممتد!
ولقد كان كل الذين يراقبون الصورة الحية والرائعة لا يصدقون ما يرون, وأذكر مرة في ميدان التحرير بصنعاء, وجمال عبد الناصر محاط وسط الميدان الفسيح بعشرات الألوف, أن جورج ماك آرثر- مراسل وكالة الأسوشيتدبرس العالمية- قال منفعلا وعينه علي الصورة الحية الرائعة أمامه: رباه.. أليس هناك مسئول واحد عن الأمن, يقول لهذا الرجل إنه مهما بلغت ثقته بهؤلاء الناس الذين ترك نفسه وسطهم, فليس ينبغي له أن ينسي أن كل واحد منهم- بحكم تقاليد اليمن- يعلق علي كتفه بندقية ويحمل في وسطه خنجرا!
وصورة باقية أخري- علي سبيل المثال- حين دخل جمال عبد الناصر الي نادي ضباط الطيران في صنعاء, كان وسط خلاصة الخلاصة من شباب مصر, وكانوا جميعا رموزا مدهشة للشجاعة والشباب. وحين دخل الي القاعة الكبيرة من ناديهم كان ترحيبهم به خمس دقائق متصلة من التصفيق الذي لا يهدأ ولا يتمهل.وتحدث إليهم بعد العشاء وكانت جوارحهم كلها معه, ثم تحدث الرئيس السلال إليهم ليقول لهم إنهم وطائراتهم كانوا أمله في الأيام الأولي من المعركة, وإنه يأسف إذ ضايقهم بالبقاء في قاعدتهم الجوية في الروضة, يتابع مع الساعات نشاطهم فوق جبهات القتال المتعددة...
ثم صورة ثالثة- علي سبيل المثال- في منظر دخول جمال عبد الناصر الي مدينة تعز. كانت الصورة لا تكاد تصدق, كأنها لوحة تاريخية لتلال القدس تستقبل قديسا عائدا اليها. إن تعز فيها الكثير من الشبه بالقدس, والطريق إليها مثل الطريق الي القدس يمتد علي الوادي بين التلال التي تتناثر فوقها الخضرة. وحين اقترب جمال عبد الناصر من تعز, تدفق أهلها علي سفوح التلال متدافعين إليه علي الطريق في قلب الوادي. وكانت طبولهم تدق, ودعاؤهم وصلواتهم تتجاوب مع دقات الطبول, وأشكال القادمين علي السفوح وأزياؤهم, هي أشكال وأزياء قرون طويلة مضت, وحتي سحب الغبار التي أثارتها الأقدام الزاحفة الي قلب الوادي كانت لونا مؤثرا في لوحة التاريخ العظيمة عند دخول تعز.
خامسا: استقبال عبد الناصر المذهل في السودان في26 أغسطس1967:
بحثت في مقالات الأستاذ هيكل في هذه الفترة عن وصف لهذا الاستقبال, فلم أجد! وعندما استعرضت كتاباته كلها عن مؤتمر القمة العربي في الخرطوم; وهو أول تجمع لملوك ورؤساء العرب بعد هزيمة يونيو1967, أدركت علي الفور أن تلك كانت مناسبة للمسئولية والعمل الشاق الذي نيط به تحديد مستقبل الأمة العربية كلها, أما الاستقبال فقد كان جماهيريا عفويا, أعتقد أن الأستاذ هيكل تخطاه عن قصد ليركز علي استراتيجية العمل العربي, وخاصة أن المواجهة العسكرية بين القوات المصرية والسعودية في اليمن كانت مستمرة.
وهنا لي تعليقين: أولا: أن صحافة العالم وصفت هذا الاستقبال منقطع النظير في صفحاتها, وأبرزها مجلتا التايم والنيوزويك.
ثانيا: كان لاستقبال شعب السودان لعبد الناصر استقبال الأبطال; أثر كبير علي نفسيته, شعرت به فور وصوله عائدا الي القاهرة في أول سبتمبر1967; مبتسما ربما أيضا بسبب نجاح المؤتمر عربيا وعالميا.
ولعل كلمات عبد الناصر ذاتها تلقي الضوء علي الأثر الذي تركه الشعب السوداني في نفسه, وذلك حين زار السودان في أول يناير1970 بمناسبة يوم استقلاله:
حينما جئت اليكم هنا في أغسطس سنة7691 بعد الهزيمة وفي هذه المواقف الصعبة, كنت أتساءل وأنا أصل الي مطار الخرطوم.. ماذا سيكون عليه الحال حينما أقابل هذا الشعب الشقيق.. هذا الشعب الوفي.. هذا الشعب المقاتل المناضل المكافح.. هذا الشعب الطيب؟ وحينما وصلت الي عاصمتكم المجيدة.. حينما وصلت اليكم في هذا اليوم رأيت شعب السودان البطل يعطيني من الأمل في المستقبل كل ما يمكن أن آخذه.. كل ما يمكن أن أحلم به. رأيت- أيها الإخوة- شعب السودان البطل وقد وقف في الطرقات من الصباح الي المساء حتي وصلنا لنحضر مؤتمر الخرطوم, وكان الشعب كله ينادي بالتصميم علي النضال.. بالتصميم علي الصمود.. بالتصميم علي الوقوف حتي النصر.
وبعد ذلك- أيها الإخوة- عدت الي القاهرة بعد مؤتمر الخرطوم وخرجت المجلات الأجنبية وقالت الشعب.. الشعب في الخرطوم يهلل للمنهزم! وقلت في نفسي في هذه الأيام, إن هذا الشعب لم ينهزم وإنما كان يعبر عن إرادة الأمة العربية, وإننا حينما فقدنا المعركة في هذه الأيام, لم تكن أبدا هذه هي المرة الأولي في التاريخ التي يفقد فيها شعب معركة ثم ينتصر بعد ذلك, إذا صمم وإذا أراد. وكانت نظرتكم في هذه الأيام في أغسطس سنة7691, وكانت تعبيراتكم لم تقنعني أنا فقط, ولكنها أقنعت العالم أجمع أن الشعب العربي سينتصر.
من هنا.. من الخرطوم في سنة7691.. في أغسطس سنة7691 تنبأ العالم أجمع أن الأمة العربية ستصمد, ومن الذي أعطي للعالم أجمع الفرصة حتي يتنبأ؟ أنتم شعب السودان البطل الذي لم يتأثر بالهزيمة.. الذي لم يتأثر بالانكسار.. الذي لم يتأثر بأن الأمة العربية فقدت جيوشها.. فقدت سلاحها, والذي أثبت للعالم أجمع أن المسألة لم تكن مسألة السلاح فقط ولكنها أيضا مسألة الإيمان, وكنتم بإيمانكم القوة التي سرنا بها من76 حتي الآن, ونحن نعلم أن ما ظهر بينكم هنا في الخرطوم إنما هو تعبير عن الأمة العربية كلها.
   لقد كان ذلك جزءا بسيطا جدا مما أردت أن أعرضه في موضوع اليوم, ولكن ما يطمئنني الآن أن أصبحت مقالات بصراحة للأستاذ هيكل متاحة للجميع عبر الانترنت, وبالتالي فإن المزيد أصبح في متناول اليد.

إرسال تعليق

0 تعليقات